لم
يمض شهر تقريبا منذ انتهى ما وصف بأنه أطول إضراب يقوم به عمال قطاع
القطارات في ألمانيا، حيث امتد لما يقارب 127 ساعة، في محاولة منهم لتحيسن
مرتباتهم. على مر التاريخ، تحقق بعض الإضرابات الغرض منها، بينما يفشل
البعض الآخر في ذلك، بعضها استغرق أعواما، والبعض الآخر أصبح إضرابا
عالميا. فما هي الإضرابات العمالية؟ متى بدأت وما الذي يعمل على تحريكها؟
الإضراب العمالي
الإضراب هو الانقطاع عن العمل، ويصبح الإضراب عماليا عندما يحدث رفض جماعي لدى الموظف عن العمل. يحدث الإضراب العمالي عادة كتعبير واستجابة لتظلمات الموظفين. استخدم لفظ الإضراب للمرة الأولى في لندن، عام 1768، عندما قام البحارة بإزالة أشرعة سفنهم التجارية، دعما للمظاهرات في لندن، مما عمل على إحداث حالة شلل تامة للسفن. وقد استخدموا في منشوراتهم آنذاك عبارات مثل (التوقف عن العمل) أو (النزاع الصناعي).
كان هذا الحدث هو الاستخدام الأول
للكلمة الإنجليزيةstrike ، أما إذا ما عدنا بالزمن للوراء، فما يمكن
اعتباره حقيقة أول إضراب عمالي في التاريخ، قد سجل أيام الحضارة الفرعونة،
تحديدا في نهايات السلالة العشرين للفراعنة في عام 1152 قبل الميلاد. حيث
غادر الحرفيون أعمالهم في المقبرة الملكية، لأنهم لم يحصلوا على رواتبهم،
مما اضطر السلطات الفرعونية حينها إلى رفع الأجور.
أخذت الإضرابات العمالية زخمها وتزايدت
أعدادها، وأصبحت سمة أساسية من المشهد السياسي مع بداية الثورة الصناعية مع
بداية الثلاثينات في القرن التاسع عشر (1830)، ولم يمض الكثير من الوقت
ليبدأ الإضراب الأكبر على مستوى بريطانيا، والذي بدأ في مناجم الفحم
بستافوردشاير، امتد بعدها ليشمل بريطانيا بأكملها. قام بالإضراب وقتها أكثر
من 500 ألف عامل.
أول من اعترف بالحق في الإضراب كان
الميثاق الاجتماعي الأوروبي في مادته السادسة في عام 1961، تلته بعد 6
أعوام وثيقة العهد الدولي الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
في مادتها الثامنة.
النقابات العمالية
هي في الغالب الجهة الرئيسية المسؤولة
عن الدعوة للإضراب، والدعوة إلى إنهائه. وهي من يوكلها الموظفون والعمال
للتفاهم مع الشركات والمصانع، حتى يستطيعون الوصول إلى اتفاق مرضٍ للجميع.
إلا أنه وفي بعض الأحيان، يمكن للموظفين القيام بإضراب جماعي عفوي دون
اللجوء للنقابات العمالية.
تعود بدايات النقابات العمالية إلى
القرن الثامن عشر، مع التوسع الصناعي السريع، والذي لم يعد قاصرا على
الرجال، حيث بدأت النساء والأطفال بالانضمام إليه بأعداد كبيرة، مشكلين
منظمات تجمعهم بشكل عفوي، لتكون تلك المنظمات هي نواة هامة لتطورالعمل
النقابي.
النقابات العمالية، أو ما يمكن أن يُعرف
باسم ” منظمة العمّال”، أنشئت لتجمع تحت ظلالها مجموعة من العمال يسعون
لتحقيق أهداف مشتركة، كحماية سلامة تجارتهم، وتحسين معايير السلامة أثناء
العمل، وتحقيق أعلى الأجور والاستحقاقات كالرعاية الصحية والتقاعد،
وليحصلوا على ظروف أفضل للعمل. تتفاوض النقابة باسم عامليها والمنتمين
إليها مع صاحب العمل، لتحاول أن تعمل على تحقيق ما يرجوه المشتركون فيها.
هل تحقق الإضرابات الهدف منها دائما؟
بالطبع لا يستسلم أصحاب الشركات للإضراب
من الوهلة الأولى، فكما تحاول النقابات العمالية الضغط على أرباب العمل من
جهتها باستخدام الإضراب سببا لذلك، يسعى أصحاب العمل من جهة أخرى لمقاومة
الإضراب إذا ما استطاعوا، من جهة حتى لا يستسلموا للوصول إلى اتفاق لا
يرضون عنه، ومن جهة أخرى حتى لا تتحقق لهم خسائر تضر أعمالهم ومكاسبهم بسبب
الإضراب. ويُعد أشهر ما يلجأ إليه أصحاب العمل عادة، هو توظيف عمالة مؤقتة
تقوم بالعمل حتى نهاية الإضراب.
إلا أن العمالة المؤقتة قد لا تكون
أحيانا الحل السحري، فإذا ما استمر الإضراب طويلا، سيكون تدريب العمالة
المؤقتة على العمل لفترات طويلة عبئا إضافيا على صاحب العمل، كما أن
النقابات العمالية واتحادات العمال تعمل أحيانا على الاتفاق مع العمالة
المؤقتة للمطالبة بأجر أعلى، لا يستطيع أصحاب العمل توفيره لفترات طويلة.
إذن يعتمد الأمر في النهاية على الأكثر
إبداعا في كيفية الوصول إلى هدفه، فينجح الإضراب أحيانا في تحقيق الهدف
منه، ويفشل في أحيان أخرى.
هل يمكننا القول أن هناك إضرابات ناجحة؟
- ربما من الأمثلة على الإضرابات التي
نجحت في تحقيق أهدافها واستفاد منها العديدون، كانت الإضرابات الطلابية
التي قام بها طلبة الجامعات في ألمانيا بعد قرار زيادة المصاريف الجامعية
في 2012، ما ترتب عليه التراجع في قرار الزيادة أولا، ثم تطور الأمر إلى
قرار بإلغاء المصروفات الجامعية مع بدايات عام 2013.
- في عام 1966 انتهى الإضراب الذي دعى له
اتحاد عمال النقل، بتحقيق مكاسب كثيرة للعاملين. ذلك الإضراب الذي استمر
12 يوما بداية من يوم احتفالات رأس السنة، ورغم حملات الاعتقال التي تمت
وقتها، وصدور أمر قضائي بإنهاء الإضراب، إلا أن ما حصل عليه العاملون بعدها
كان يستحق. حيث تم إقرار حزمة تشمل زيادة في الأجور، والحصول على عطلة
إضافية مدفوعة الأجر. مع زيادة المعاشات التعاقدية.
- ما بين ديسمبر 1996 ويناير 1997 دعا
اتحاد نقابات العمال في كوريا الشمالية، ما يزيد عن مليون من أعضائه للدخول
في إضراب عام عن العمل، بسبب قانون جديد للعمل أقرته الحكومة الكورية،
يعطي حقوقا أكبر لصاحب العمل على حساب حقوق العمال.
بدأ الإضراب في قطاع صناعة السيارات والسفن، وامتد بعد ذلك إلى قطاع المستشفيات وغيره من القطاعات. مما اضطر الشرطة وقتها إلى استخدام القوة مع المضربين. ذلك الإضراب الذي أجبر الحكومة في النهاية، وتحديدا في نهاية يناير إلى إلغاء قانون العمل الجديد.
تأثير الإضرابات العمالية على الدولة والمواطنين
أما عن الدولة فعليها
أن تتولى مسؤولية حماية المضربين إذا ما قرروا التظاهر في الشوارع أو
الاعتصام أمام شركتهم أو مصنعهم، تبعا لما يقضي به القانون، كما أنه ومما
لا شك فيه أن الاقتصاد العام للدولة يتأثر تبعا للجهات التي تقوم بالإضراب،
وعددها في نفس الوقت.
يتحمل المواطنون أيضا
عواقب الإضرابات العمالية، فهم ملتزمون بالوصول إلى أعمالهم دون تأخير حتى
وإن كان الإضراب يطول القطارات ووسائل المواصلات، فأصحاب الأعمال الأخرى
ليسوا على استعداد لتحمل تأخر موظفين نتيجة الإضرابات. كما تعاني الأمهات
العاملات عند قيام مشرفات الحضانة بإضراب، حيث لا يعلمن أين يذهبن
بأبنائهن، ولا يراعي ذلك أيضا أصحاب العمل.
وقد يتضاعف الأثر على المواطنين إذا ما
كان الموظفون المضربون يعملون لدى جهة تقدم أكثر من خدمة للمواطنين، كما
حدث في إضراب هيئة البريد الأخيرة في ألمانيا، فلم يتم توزيع البريد وضاعت
على العديدين الكثير من الخطابات الهامة، في نفس الوقت الذي فوجئ فيه الناس
بعدم وجود نقود في ماكينات الصرف الآلي للبنك التابع لهيئة البريد، حيث لم
يقم أحد بمتابعتها، وملئها عند نفاذ النقود منها.
أشهر الإضرابات العمالية في التاريخ
تبعا لخريطة الإضرابات،
والتي تسجل ما حدث منها منذ القرن السابع عشر، نجد أن الدولة التي حظت
بأكبر قدر من الاضرابات العمالية هي الولايات المتحدة، يليها بريطانيا.
فليس من الغريب أن تكون أشهر الإضرابات في التاريخ تعود دائما إلى أمريكا.
1- إضراب المدرسين في واشنطن
عام 2011، حيث أضرب المدرسون عن العمل بسبب دنو الأجور، ومساحات الفصول
الدراسية، والطريقة التي يتم التعامل بها معهم. ورغم أن الأهالي حاولوا
الحصول على حكم من المحكمة بعدم قانونية إضرابهم، إلا أن المدارس وقتها قد
أغلقت لعدة أيام.
2- نيويورك وتحديدا في
عام 2005، وجد الملايين من المواطنين أنفسهم عاجزين عن استخدام المواصلات
العامة، وذلك بسبب إضراب السائقين عن العمل رغم استمرار الإضراب ليومين لا
غير.
3- أضرب لاعبو كرة القدم في أمريكا
عن اللعب لعام كامل، ما مثّل للبعض وكأن أمريكا كلها قد حصلت على أجازة
مرضية. ما ساعد على ذلك الإحساس قيام لاعبي الهوكي بإضراب عام أيضا في نفس
الموسم لعام 2004-2005 .
4- بريطانيا، والتي
استطاعت أن تحصل على مكان في القائمة مع الولايات المتحدة، فمن صيف عام
2009 وحتى ربيع 2010 لم تصل عشرات الملايين من الطرود التي كان يجب أن تصل
إلى أصحابها، بسبب اعتصام موظفي البريد اعتراضا على عدم توفر الأمن الوظيفي
للعمال، بسبب اتجاه البريد الملكي لاستبدال العمالة البشرية بالآلية. تم
الوصول إلى اتفاق في النهاية بزيادة الأجور وحفاظ 75% من العاملين بالمركز
بدوام كامل.
5- إضراب العاملين في الوجبات السريعة،
ذلك الإضراب الذي بدأ في الولايات المتحدة عام 2012 بـ 100 عامل فقط من
عمال مطاعم ماكدونالدز، لتتزايد أعداده اطرادا كل عام، حتى تحول في عام
2015 إلى إضراب للعاملين في هذا القطاع على مستوى العالم. ففي الخامس عشر
من مايو لعامنا الحالي، خرج العاملون في قطاع الوجبات السريعة في 230 مدينة
حول العالم، في اليابان والبرازيل والهند وبريطانيا، هذا بخلاف الإضراب
الذي شمل أكثر من 200 مدينة في أمريكا لوحدها قبل هذا التاريخ بشهر واحد.
مطالبين جميعا برفع الحد الأدنى لأجورهم إلى 15 دولارا في الساعة. ومازالت
المفاوضات مستمرة.
2015 والإضرابات العمالية
رغم انقضاء ستة أشهر فقط من العام، إلا
أن الإضرابات العمالية قد طغت أخبارها في أنحاء العالم. فمن آيسلاندا التي
تعيش تحت الإضرابات حاليا والتي يتوقع وصول عدد المضربين فيها إلى 70 ألف
عامل، إلى الولايات المتحدة وتحديدا ولايات تكساس ولويزيانا وكاليفورنيا،
حيث واجهت إضرابا لعاملي البترول في شركة شل.
المكسيك التي قام فيها 50 ألفا من
المزارعين بإضراب عام، وألمانيا التي عاشت بين 4 إضرابات في وقت واحد
تقريبا ما بين إضراب عمال هيئة القطارات، والبريد ومشرفات الحضانات وعمال
اللوفتهانزا.
الصين، والتي لم تتغير سياستها
الدكتاتورية في التعامل، والتي أنهت إضرابا للعاملين في صناعة ضوء الدراجات
في مصنع شينزن، إما بالطرد، أو الاعتقال. تركيا والتي يُتوقع أن يصل عدد
المضربين فيها من العاملين في صناعة المعادن إلى 15 ألف مع نهاية الشهر
الحالي اعتراضا على تدني الأجور، وكندا التي أضرب فيها آلاف المدرسين
الغاضبين.
بغض النظر عن النتيجة التي تخرج بها
الإضرابات المختلفة، إلا أن هذا النوع من الاعتراض على الظروف السيئة
للعمل، أو تدني الأجور، أو عدم توفر السلامة الوظيفية أو الحياتية سيستمر
في التواجد والتصاعد، لا تتسبب نتائجه السلبية السابقة في تدني الأمل لدى
العاملين الظانين أن ظلما قد وقع عليهم من أرباب أعمالهم.